كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والله سبحانه يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفحشاء. فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقًا- والفاحشة: كل ما يفحش أي يتجاوز الحد- والعري من هذه الفاحشة، فالله لا يأمر به. وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء. إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله. وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه. وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله. فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله.. وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه، وهو يزعم أنه دين الله!!
إن الجاهلية هي الجاهلية. وهي دائمًا تحتفظ بخصائصها الأصيلة. وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلامًا متشابهًا؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة، على تباعد الزمان والمكان.. وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول: شريعة الله! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها، وهو يقول: إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك،.
وحجته هي هواه!!!
{أتقولون على الله ما لا تعلمون}..
وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد.. لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز. وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجعل المسألة فوضى، يقول فيها كل إنسان بهواه، ثم يزعم أنه من الله. وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له، والعبودية كاملة؛ فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته:
{قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين}..
هذا ما أمر الله به، وهو يضاد ما هم عليه.. يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم، مع دعواهم أن الله أمرهم بها.. ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباسًا يواري سوآتهم وريشًا يتجملون به كذلك.. ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم..
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار؛ ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء؛ وبمشهدهم في العودة وهم فريقان: الفريق الذي اتبع أمر الله، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان: {كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون}..
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية. نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء:
{كما بدأكم تعودون}..
وقد بدأوا الرحلة فريقين: آدم وزوجه. والشيطان وقبيله.. وكذلك سيعودون.. الطائعون سيعودون فريقًا مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله.. والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ الله منهم جهنم، بولائهم لإبليس وولايته لهم. وهم يحسبون أنهم مهتدون.
لقد هدى الله من جعل ولايته لله. وأضل من جعل ولايته للشيطان.. وها هم أولاء عائدين فريقين: {فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون}.
ها هم أولاء عائدين. في لمحة تضم طرفي الرحلة! على طريقة القرآن، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن!
ثم يتكرر النداء إلى {بني آدم} في هذه الوقفة كذلك؛ قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة؛ في الطريق المرسوم: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}..
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى..
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على الله ما لا يعلم، ويزعم من ذلك ما يزعم.
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة؛ ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله، بل أنعم به على العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه:
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}..
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف:
{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}.
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب. وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك!
وفي صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت. كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة؛ وكان الناس يبلغون عرفات. ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى.
وجاء في تفسير القرطبي المسمى أحكام القرآن: وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسمًا في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: {خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم.. والإسراف يكون بتجاوز الحد، كما قد يكون بتحريم الحلال. كلاهما تجاوز للحد. هذا باعتبار، وذاك باعتبار.
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب. بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده، وتحريم الطيبات من الرزق. فمن المستنكر أن يحرم أحد- برأيه- ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات.
فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله:
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}؟
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس، وهذه الطيبات من الرزق، هي حق للذين آمنوا- بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم- ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}..
ولن يكون الشأن كذلك، ثم تكون محرمة عليهم؛ فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام!
{كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}.
والذين {يعلمون} حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان.
فأما الذي حرمه الله حقًا، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس، وليس هو الطيب من الطعام والشراب- في غير سرف ولا مخيلة- إنما الذي حرمه الله حقًا هو الذي يزاولونه فعلًا!
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}..
هذا هو الذي حرمه الله. الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله. ظاهرة للناس أو خافية. والإثم. وهو كل معصية لله على وجه الإجمال. والبغي بغير الحق. وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل- كما بينهما الله أيضًا- وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطانًا مع الله سبحانه في خصائصه. ومنه هذا الذي كان واقعًا في الجاهلية، وهو الواقع في كل جاهلية. من إشراك غير الله ليشرع للناس؛ ويزاول خصائص الألوهية. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم. ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين..
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة؛ ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده..} ما رواه الكلبي قال: لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها.. فنزلت الآية.
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون ببيت الله عرايا؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة الله التي أنعم بها على البشر؛ لإرادته بهم الكرامة والستر؛ ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني.. الجسمي والنفسي.. إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله عيروهم!
إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس.
هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟!
ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيًا وحضارة وتجديدًا؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن رجعيات.
تقليديات. ريفيات!
المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح.. {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟